تخطى إلى المحتوى

يتحول الغزيّون اليوم إلى مجموعة من النازحين الذين فقدوا كل شيء تقريباً في حياتهم، تتساقط عائلتهم كاملة لا أفرادا، ينحدر أمامهم كل شيء ككرة ثلج متدحرجة تجرف معها قصصهم، ذاكرتهم بصورها وأصواتها، أصدقائهم، بيوتهم، مدينتهم، حالة إنكار تصيبيهم حيال ما يحدث في غزة، حيث فاقت قدرتهم على استيعاب حالة القتل الإسرائيلية المتوحشة العشوائية، بحسب كريم أبو الروس، 27 عاماً، كاتب وباحث فلسطيني من غزة، مقيم في بلجيكا.

لم يخسر كريم أحبائه فقط في الإبادة الجماعية في غزة، بل خسر ما تبقى لديه من أمل يتهاوى أمام أعينه، أمل يندثر لدى جميع الشباب الغزي حتى الذين قضوا سنوات خارج حدودها، فلا يستطيع أن ينعم بحياة طبيعية هادئة، حتى في بقعة جغرافية تبعد آلاف الكيلومترات عن غزة، بل يلازمه قلق وجودي، وخوف مستمر من فكرة الفقدان في أي لحظة. “نخرج من غزة، ولكن غزة لا تخرج منا مهما بعدنا عنها”، يقول كريم. 

كان 13 من أكتوبر الماضي اللحظة الأصعب عليه، حيث توقف الزمن مع استشهاد أخته هديل وبناتها الاثنتين وأولادها الاثنين، قتلهم صاروخ إسرائيلي في ثانية واحدة دون سابق إنذار. ويوضح كريم أن عائلته، التي تعيش في رفح، صغيرة نسبية مقارنة بعائلات القطاع الممتدة ومع ذلك كان لها نصيب كبير من الفقد، “تقريباً كل أسبوع هناك شهيد من العائلة”.

 كانت المرة الأولى لكريم يراوده شعور عميق من الخوف والقلق، الغضب والعجز، والقهر في لحظة واحدة، خليط من مشاعر لم يختبرها من قبل، واستنزاف متواصل لروحه، فلم يكن هذا العدوان الأول له وهو بالخارج، إذا شهد عدوان 2021 وهو في لبنان بعدما أنهى دراسة الماجستير في العلوم السياسية.

ويرى أن الخروج من غزة، التي كان لها نصيب وافر من رائحة بارود الاحتلال، وصواريخه، الموت، الدمار، الحصار، لا يعني أنك نجوت بالكامل، فآثار تلك التجارب والأيام لا تتلاشى بسهولة، لا يمكن إنكارها، أو حتى التخلص منها.

“أثناء جلوسي في أحد المقاهي تلقيت خبر دهس دبابات الاحتلال لجثامين الشهداء في محيط مستشفى الشفاء، كنت حينها مستاء مقهور، ضاقت بي الدنيا بما رحبت، في وسط يعمه أصوات الضحك والأحاديث من الطاولات المجاورة لي، شعرت أنني في كوكب آخر، أنني أعيش في عالم لا أنتمي له”، يقول كريم.  

ولألفة الشخص الغزي مع تجربة الحصار وما تبعه من أوجه المرار في غزة، ليس بالضرورة أن لا يكون له تجربة أخرى معه بشكل خاص ومختلفة كلياً، فكان لكريم حصة وفيرة من حصار داخلي يخصه وحده، فلا يستطيع التعبير عما يجول بباله، وإن عبر فلا أحد يستطيع أن يفهم شعوره أنه من هناك، من تلك المنطقة التي تشهد إبادة جماعية، تبث مباشرة أمام العالم، خاصة في وسط شعب لا يرقى مستوى تواصلهم مع فكرة الحرب بشكل زخم مثل الشعب الفلسطيني في غزة، فيشعر أن لا جدوى من شرح نفسه وشعوره، أو حتى أفكاره التي تنهال عليه بشكل متدفق لجميع الاحتمالات السيئة التي قد يتعرض لها أحد من عائلته أو أصدقائه، كفقدهم، وقصف البيت، الجوع، العطش، الدواء، النزوح، الاعتقال.

وأن تكون شاهداً من الخارج على كل ما يجري من أحداث لاإنسانية في كل القطاع دفعة واحدة مباشرة بالنسبة لحلا شومان، 30 عاماً، طالبة دكتوراه في علم السياسة والاجتماع في بريطانيا، أمر ليس بالهين وهي بعيدة عن وطنها. خرجت حلا من غزة قبل العدوان بأسبوع، وحاولت العودة إلى القطاع لتكون بين أهلها، تتجرع معهم المعاناة والمرارة من نفس الكأس، لكن كان الواقع أكثر تعقيداً مما تتصور بسبب إغلاق المعبر ووضعها القانوني، إذ لا يسمح لها بمغادرة الجامعة خلال الفصل الدراسي دون إذن مسبق. 

وتتزايد طبقات الضغط النفسي لحلا في كل مرة تتلقى فيها رسالة نصية، وصية أكثر من مجرد رسالة نصية من أفراد عائلتها، أولاً والدها، ثم أخواتها، ثم أزواجهن، فتشعر مع كل رسالة أنها على بعد لحظات من فقدهم، وأي قلب يحتمل كل هذا الألم دفعة واحدة. في الحالة الطبيعية، بين كل مغترب وعائلته، يكون محتوى الرسائل للاطمئنان على الآخر، نقل الأخبار الجيدة أو حتى التجارب السيئة، ولكن هذه الرسائل لها خصوصيتها في حالة غزة اليوم، فتتحول إلى وصايا، تعليمات وإرشادات لكيفية التصرف بالحسابات البنكية الخاصة بالعائلة، وللأوراق الثبوتية لممتلكاتهم في الوطن، وطن أذاق أهله كل عذابات الدنيا، وطن ظُلم وأهله، “يعافر من أجلنا ونعافر من أجل حريته، وبقدر ما تربطنا به علاقة حب غريبة، لا يبخل علينا من الألم والحسرة التي تزداد مع كل يوم من عمرنا”، تقول حلا، التي نزحت عائلتها إلى رفح منذ الأشهر الأولى للعدوان، وتمكنوا من مغادرة القطاع نحو مصر قبل شهر.

يعيش الغزي المغترب في عالميين منفصلين، عالم يباد فيه أهله، ومدينته، يستمر فيه كل أشكال المعاناة والموت والتشرد، يستمر كل شيء إلا الحياة، وعالم آخر مواز، تستمر فيه كل مظاهر الحياة بشكل طبيعي، كأن شيء لم يحدث، كأن الإبادة التي تحصل في غزة “مشهد سريالي أو مشهد من فليم خيالي هوليودي”، توضح حلا.

وفي ظل استمرار الحياة بالخارج في ذات الوقت الذي توقفت فيه الحياة في غزة، فضّلت يسرى الحلبي، 25 عاماً، طالبة ماجستير في برنامج الكيمياء العضوية في تركيا، الانعزال والتعامل مع أشخاص معدودة تواسيها بمصابها الجلل، “أنا أمل أهلي الوحيد اليوم، ولا أستطيع الحديث عن شيء آخر سوى غزة وما يجري بها وما يجري مع اهلي هناك”، تقول يسرى. 

تعيش عائلتها في حي الشيخ رضوان، يبعد عن وادي غزة 40 دقيقة بالسيارة، رفضت عائلتها مغادرة المدينة بعد تهديدات الاحتلال الإسرائيلي بالإخلاء، وتذوقت ويلات النزوح لأكثر من 10 مرات منذ بداية العدوان، ما بين مدارس وبيوت الأصدقاء والأقارب، وفي أحد المرات لجأت لمكان أشبه بالقبر على حد وصفها للاحتماء من القصف الإسرائيلي. 

أما قدرتهم على توفير الطعام فوصلت مرحلة اليأس في ظل المجاعة المفروضة على شمال وادي غزة، أُجبرت عائلتها على تناول البطاطا العفنة والحشائش، وشرب الحَساء لمدة تجاوزت الشهر للبقاء على قيد الحياة، بحسب يسرى.

وتردف يسرى قائلة: “لحظة الإدراك لكل المغتربين بالخارج حيال الخسارة الكبيرة في غزة تكون عند العودة إليها، والتقاء أعيننا مباشرة بكل الأماكن التي دمرت وفقدت، بعيداً عن شاشات التلفاز والهاتف”.

“لو أن باستطاعتي وصل الزمن، أن أعود إلى الشوارع التي أحفظها عن ظهر قلب، إلى البحر الذي كنا أمامه نضحك لنقهر الدنيا، وفي البيوت التي التقينا فيها بمن نحب وخلقنا حياة عامرة بالونس الصادق. هذه الذكريات تتكوم في الشوارع، كومات من حجارة رمادية، وأي قلب طيّع يمكن أن يصدق أن كل اللحظات والمشاهد الحقيقية السعيدة، وتلك الحزينة، لم تعد شيئاً سوى كومة حجارة رمادية ملقاةً وسط الشارع”

عجز وقهر

إن أقسى ما يعانيه الغزي المغترب هو عجزه عن فعل أي شيء حقيقي يساعد به عائلته تحت زخات الصواريخ الإسرائيلية، عجز يتحول إلى قهر قاتل، وأن يكون إرسال حوالة مالية قد تبقي أهله قادرين على النجاة، أمر يزيد من العجز عجزاً، ومن القهر قهراً. 

يضيف كريم أن هناك مسؤولية وقعت عليه، بل على كل الشباب والشابات الغزيين بالخارج، مسؤولية لم يتخيل أنها ستلقى على ظهره يوماً، وكيف لمغترب قبل أن يبدأ بشق حياته في بلد غير وطنه، أن يتحول إلى بصيص الأمل الوحيد لدى أهله بغزة لإخراجهم منها. 

ويوضح أن ما يفعله جيش الاحتلال الإسرائيلي حالياً إبادة للبنية المجتمعية في قطاع غزة، “نسف حقيقي لكل مقدرات الشعب الفلسطيني، من مصانع وشركات، ووجود حيوي وبشري، ووجود اقتصادي ومؤسساتي فيزيائي، هو عملياً نسف للذاكرة والوجود الحقيقي للفلسطينيين”، يقول كريم. 

إحساس العجز والمسؤولية تجاه وطنه وأهله دفعه لتشكيل حلقات معرفية لكل من هو مهتم بما يجري بغزة من قبل الأجانب والأصدقاء، غير العرب، في بلجيكا، فلم يكل من تثقيفهم بما يجري، وما جرى على مدار 75 سنة الماضية منذ النكبة الأولى للفلسطينيين عام 1948. ويوضح أن المتضامنين الأوروبيين، يخرجون بمظاهرات يعبرون بشكل حقيقي عن شعورهم، ولكن لم يكن لديهم المعرفة الكافية بالقضية الفلسطينية، وتسارع الأحداث المرعبة في غزة أثارت فضولهم لمعرفة التفاصيل وطرح الأسئلة عن وضع غزة، حصارها، الحياة فيها، معبر رفح والتنسيق للخروج من خلاله.

ويرى كريم أن دوره بالخارج مهم للتعريف بواقع وطنه من خلال بناء معرفي تراكمي مع نوادي طلاب في الجامعات البلجيكية، “المعرفة هي سلاحي اليوم”، يؤكد كريم. 

أما حلا، وهي ناشطة حقوقية مستقلة، فضلت المشاركة في المظاهرات والتحدث أمام الجموع الغفيرة من المتضامنين في بريطانيا، والتحدث مع ممثلي الأحزاب، أملاً بالضغط على الحكومة البريطانية لاتخاذ إجراء بوقف الابادة الجماعية، “الشعب البريطاني المشارك في المظاهرات المليونية بات مقتنعاً بأكذوبة ديمقراطية بلده، إذ لا يُسمع صوتهم من قبل الحكومة، ولا وزن لرأيهم في أجندة حكومتهم”، تضيف حلا. 

سخّرت حلا حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لنشر حقيقة ما يجري في غزة، ونشر الوعي بالقضية الفلسطينية، خاصة “في ضل تعتيم الإعلام الأمريكي والبريطاني للرواية الفلسطينية”، تضيف حلا.

ويرى كل من كريم وحلا أن تعلّقهم بغزة هو طريقهم الدائم للبحث عن العدالة، العدالة لغزة ولأهلها من الظلم الممنهج الذي وقع عليها، وسحق آمال شعبهم بالوجود، “نحن لا نريد أن نلعب دور الضحية، وكل محاولتنا بالخارج من الحديث عن واقع فلسطين وغزة هي محاولتنا للدفاع عن حقوقنا، هذا واجب أبنائها بالخارج للدفاع عن أرضهم وسرديتهم، واجبنا لتحقيق العدالة لغزة التي ظُلمت، وظُلم معها أهلها”، بحسب كريم.

الاتصال بالعائلة

الاتصال بالعائلة في غزة أمر مرهق لأبنائهم بالخارج، قد يحتاجون يوماً كاملاً من المحاولات وربما أكثر، لئلا ينتهي بهم المطاف سماع تسجيل صوتي، “سلام لغزة، فقد الاتصال بالقطاع الحبيب نتيجة العدوان المتواصل، حمى الله غزة وأهلها”، تسجيل سمعه الغزيين بالخارج ربما أكثر من سماعهم لأصوات أحبائهم في القطاع.

كانت المرة الأولى من انقطاع الانترنت والاتصالات، 27 أكتوبر الماضي، تجربة قاسية، 3 أيام من عدم اليقين بما يجري مع أهالي القطاع، “سيطر رعب حقيقي عليّ، حالة من الخوف غير مفهومة، وعمليات بحث مستمرة لما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي عن أماكن القصف، وأسماء الشهداء”، بحسب كريم. تجربة لم تكن مرهقة لمن هم بالخارج فقط، بل كانت أيضاً مرعبة لمن هم داخل القطاع الذي شعروا “بارتباك وانعزال عن العالم الخارجي”، يوضح كريم. 

يفقد الهاتف قيمته حين ينقطع الاتصال بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي لشبكات الانترنت، والبنى التحتية، يتوسل الغزي المغترب هاتفه أن يستقبل مكالمة أو حتى رسالة من عائلته تحتوي على كلمتين، “نحن بخير”، تشفي نار قلبه لثواني، بعدما كان يفزع من كل صوت إشعار، أو رنة هاتف، وقلبه يرتجف خشية استقبال خبر أليم، تروي يسرى.

تسيطر على يسرى في كل مرة تفقد الاتصال مع عائلتها حالة من الرعب المصحوب بنوبات بكاء شديد، وإحساس بالوحدة. زاد هاجس الفقد معها على مدار الشهور الماضية بعد فقدانها لعمها وعائلته، ثم استشهاد خالها، “أصبحت أفضل أن استمع إلى صوت أهلي طوال المكالمة كلما سنحت لي الفرصة، لأنني أخشى أن تكون المكالمة الأخيرة بيننا”، تقول يسرى.

يمر كل يوم ثقيلاً عليها، تتابع الأخبار بنهم كل دقيقة، وتعيش مذعورة أن يكون فرداً آخر من عائلتها خبراً عاجلاً، لا ترى يسرى الصورة كأي إنسان آخر، إنما هي جزء من هذه الصورة بالرغم من وجودها في بلد بعيد عن وطنها. 

“غزة مكان عادي”

“لو أن في العالم أكثر من غزة واحدة لعرف حينها أنها مكان عادي، أن أناسها ليسوا أبطالاً بالضرورة، وإنما أشخاص عاديون، لكنهم يحبونا قساة وجبارين، وأحبنا بسطاء وعاديون.” تقول بسنت، فلسطينية مقيمة في قطر.

وترى أن الغزيين أينما كان مكانهم يعيشون حالة من الألم والحسرة الجماعية، خسارة على جميع الأصعدة، جرح كبير يجمع المدينة وأهلها سويا، جرح لن يشفى مع الزمن، فلكل غزي ألمه الخاص من هذه الخسارة الكبيرة، يشاركه مع مثيله باختلاف بعض التفاصيل. 

كانت حياة كريم في غزة، بالرغم من صعوبتها، هي الحافز والسبب لإعطاء معنى لحياته، دراسته، عمله، فأكمل دراسته في مجال العلوم السياسية، وبالرغم من توتر علاقته بتلك البقعة في أحد فترات حياته، وشعور الإرهاق الذي لازمه بسبب ما عايشه من ظروف ضائقة في غزة، إلا أنه كباقي الغزيين في الخارج، ينظر إليها “بحميمية تكون أحياناً غريبة الأطوار للآخرين، لولا غزة، لما كنت ما أنا عليه اليوم”، بحسب كريم. 

ويوضح أن الحياة في غزة لم تكن سهلة حتى بأفضل ظروفها، “علمتنا غزة أن لا شيء يأتي بسهولة، كانت الحياة فيها أضيق من أحلامنا، ولكن مع ذلك كنا نسعى، كنا نحلم، كنا نحاول بجهد مضاعف لتحقيق ما نريد، علمتنا أن نكون بجانب بعضنا البعض”، يروي كريم.

“لو أن باستطاعتي وصل الزمن، أن أعود إلى الشوارع التي أحفظها عن ظهر قلب، إلى البحر الذي كنا أمامه نضحك لنقهر الدنيا، وفي البيوت التي التقينا فيها بمن نحب وخلقنا حياة عامرة بالونس الصادق. هذه الذكريات تتكوم في الشوارع، كومات من حجارة رمادية، وأي قلب طيّع يمكن أن يصدق أن كل اللحظات والمشاهد الحقيقية السعيدة، وتلك الحزينة، لم تعد شيئاً سوى كومة حجارة رمادية ملقاةً وسط الشارع”، تقول بسنت. 

علا وشاح، صحفية فلسطينية

7 أبريل 2024

ــــــــ ذات صلة ــــــــ