حوار مع الدكتور عمر عاشور
في هذا الحوار يتناول الدكتور عمر عاشور، مؤسس برنامج الدراسات الأمنية النقدية في معهد الدوحة للدراسات العليا، تحول سياسية إسرائيل العسكرية تجاه قطاع غزة بعد انسحابها عام 2005، وذلك بالتركيز على الاستراتيجيات والتغيرات في السياسة العسكرية الإسرائيلية مع تسليط الضوء على الأحداث الهامة مثل المواجهات والحروب التي وقعت بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية منذ عام 2008 حتى اليوم. كما سيتم التطرق إلى كيفية تطور القدرات العسكرية لدى فصائل المقاومة الفلسطينية وما أهم المؤشرات على ذلك في ظل الحصار المفروض على القطاع.
1- كيف تحولت سياسة إسرائيل العسكرية تجاه قطاع غزة بعد انسحاب 2005؟
سياسة إسرائيل العسكرية تجاه القطاع تغيرت عدة مرات: كانت هناك مبادرات للتنسيق بين السلطة الفلسطينية ومصر للحفاظ على الوضع الأمني حتى عام2007، وهذا كان جزءاً من اتفاقيات أوسلو، ومن ناحية أخرى الاتفاقيات الخاصة بمعبر فيلادلفيا: ما بين السلطة الفلسطينية والجانب المصري. بعد عام 2007، أي بعد السيطرة على القطاع من قبل القوة التنفيذية والعناصر العسكرية لحماس، تغير الأمر بسبب عدم اعتراف حماس باتفاقية أوسلو، ورفضها لأي علاقات مع إسرائيل بشكل عام، الأمر الذي أدى إلى سلسلة من العمليات العسكرية والمواجهات بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في غزة منذ عام 2008 إلى الآن، حيث اتبعت إسرائيل في استراتيجيتها العسكرية ما يسمى بقص العشب، أي عندما كانت تشعر إسرائيل بأن هناك تهديد أمني تقوم بإحداث مجموعة من الضربات لإضعاف حماس والمقاومة بشكل عام، سواء عناصر كتائب القسام أو التشكيلات العسكرية الأخرى شاملة سرايا القدس، إلى جانب استهداف القيادات الكبرى، حيث كانت المواجهة الكبرى في عام 2014 و2008/09، فما كان يحدث هو ليس غزو كامل للقطاع، بل استهداف مناطق معينة وعدم التوغل بشكل كامل في كافة محافظات القطاع بهدف الإضعاف وليس التدمير.
2- هل الحروب البرية الإسرائيلية عام 2008، 2014، تحديداً في حي الشجاعية عام 2014، تُمهد بشكل بسيط لشكل الغزو الشامل الذي نراه اليوم في القطاع لأنه في ذلك الوقت اعتمدت إسرائيل على القصف المكثف العنيف واستراتيجية الأرض المحروقة؟
لا يمكن مقارنة الأوضاع الحالية بما حدث في حي الشجاعية عام 2014. معركة حي الشجاعية كانت محصورة في محافظة واحدة من أصل خمس محافظات في قطاع غزة، وكان التركيز أيضاً على محافظتي شمال غزة وغزة، بالإضافة إلى بعض الضربات الجوية والمدفعية في الوسط والجنوب.
بدأت العملية البرية الحالية في غزة منذ 27 أكتوبر الماضي حتى الآن، وشارك عدد كبير من الألوية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، تُقدر بنحو 22 لواء، أي ما يُعادل قوات 6 فرق قتالية، وهذا لم يحدث في تاريخ قطاع غزة. على سبيل المثال، حين تمت المواجهات مع المصريين في حرب عام 1967، استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي ثلاث فرق فقط، أي نصف القوات المستخدمة اليوم في قطاع غزة، وتمكن من إنهاء الجيش المصري في غضون 35 ساعة.
إن عمليات التوغل البري التي حدثت خلال عدوان 2008/09 و2014 أقرب إلى غارة منه إلى توغل، ثم تحصن، ثم احتلال، وبالرغم من مشاركة 22 لواء من جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم، وهو أعلى وجود للقوات الإسرائيلية في تاريخ القطاع، لم تستطيع السيطرة على القطاع بشكل كامل، إذ ينسحبون بشكل متكرر من مناطق كثيرة.
إضافةً إلى ذلك، إن حزمة الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية غير واضحة، ويتم تحليلها وتقديمها على أنها فرضيات، لكن هناك ثوابت ومنها: أولاً تدمير القوة العسكرية للمقاومة شاملة كتائب القسام، ثانياً تحرير رهائن، ثالثاً عقاب أهل غزة وهذه واضحة لأن حجم التدمير عالي للغاية وهذه عقلية الضاحية الذي أعلنوا عنها عام 2008، بمعنى أن الأحياء والمناطق التي سيطلق منها صواريخ أو ستخرج منها هجمات على إسرائيل سيتم استهدافها عسكرياً ومدنياً، وسيتم عقاب البيئة المدنية الموجودة فيها كما تم عقاب بيئة الضاحية في لبنان.
رابعاً، إسرائيل بشكل واضح تقتطع أجزاء من القطاع لتقيم منطقة عازلة، أي اقتطاع ما يقارب 60 كيلومتراً مربعاً بطول الحدود مع إسرائيل من أقصى شمال غرب إلى الجنوب من أصل مساحة القطاع التي تقدر 365 كيلومتراً. وأتوقع أن الطريق الذي يشق القطاع لنصفين هو من أجل فصل غربه عن شرقه وربما يعيق أي تقدم من الغرب إلى الشرق باتجاه الحدود مع إسرائيل.
3- ما هي المؤشرات لتطور المقاومة خلال الحصار؟ وكيف تطور أداء المقاومة الفلسطينية في القطاع منذ عام 2008 حتى اليوم؟
أولاً، الحصار لم يمنع تسليح المقاومة في غزة. في الواقع، شهدت الصناعة العسكرية المحلية في غزة تطوراً، حيث كان تراكم الخبرات العسكرية لدى الفصائل المقاومة الفلسطينية، واستيلائها على بعض الأسلحة الإسرائيلية دوراً في تطوير قدرتها العسكرية في ظل الحصار. إضافة إلى ما تم استيراده من أسلحة عبر عمليات التهريب إلى داخل القطاع، وبما في ذلك بعض أنواع مضادات الدروع، وحتى مضادات الطائرات قصيرة المدى.
ثانياً، شهد أداء المقاومة الفلسطينية تطورًا كبيرًا على جميع الجبهات، حيث ارتفعت القوة العددية بشكل هائل، ولم أشهد من قبل تجمعًا بهذا العدد من فصائل المقاومة الفلسطينية لمواجهة إسرائيل، حتى في الحالة اللبنانية كانت الأعداد آنذاك تقتصر على الآلاف، لا عشرات الآلاف كما هو الحال اليوم في قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك، شهدت القوة الصاروخية تطورًا ملحوظًا فيما يتعلق بالمدى ووزن الرأس المتفجر، وكذلك تطوراً في القوات الخاصة، التي تسمى بالنخب في كتائب القسام، إضافة إلى استخدام حرب العبوات بصورة أكثر فاعلية في اختراق الدروع، وهو ما يعتبر جديدًا. كما شهدت العمليات الاستطلاعية والمراقبة تطورًا، بالإضافة إلى العمليات الجوية مثل المسيرات إلى جانب قدرتها على العمليات البحرية، وظهرت قدرة جديدة على الحرب الإلكترونية، ويبدو أن بعض الدروع التفاعلية لم تعد فعالة في المدرعات الإسرائيلية، مما يشير إلى وجود تشويش عليها.
4- هل يمكننا الإشارة إلى التجارب القتالية التي قد تكون المقاومة استفادت منها؟ على سبيل المثال، هل يمكننا استخدام التجارب السابقة في استخدام الأنفاق كاستراتيجية، كما حدث في جنوب لبنان؟ لأنه من الواضح أن عملية 7 أكتوبر لم تكن بالشيء العفوي، بل استغرقت كثيراً من الوقت للتحضير لها؟
كما يبدو من الوثائق التي استولى عليها الإسرائيليون أن الإعداد لهذه العملية بدأ منذ عامين على الأقل، حيث تم التدريب عليها فترة طويلة تزيد عن سنتين، وأن التجارب المستفاد منها كثيرة آخرها بعض التجارب التي جرت في أوكرانيا خصوصاً في استخدام المسيرات والمضاد للدروع. أما عن الأنفاق، فقد تنوعت وتعددت كمية الأنفاق وعمقها وأنواعها حيث أصبح هناك قدرة على الدفاع المرن في العمق، بمعنى أن تقاتل بمرونة ومناورة في عمقك وتحت أرضك، وبالتالي حجم غزة قد تضاعف بسبب الأنفاق لأنه أتاح عمق للمقاومة داخل الأرض. وشكلت الأنفاق خطوط التواصل الأرضي أو ما نسميه كخبراء ب (ground lines communication)، فخطوط التواصل أصبحت تحت الأرض لا فوقها، ما حال دون استهدافها وعزل عناصر المقاومة عن بعضها البعض، إلى جانب ما تتيحه الأنفاق من أركان الفاعلية القتالية: الحركة والحماية، ومساهمتها في تضاعف القوة النارية بسبب المفاجئات، أي الخروج من مواقع غير مكشوفة ومخفية بشكل جيد، يصعب رصدها أو استطلاعها.
“الحصار لم يمنع تسليح المقاومة في غزة. في الواقع، شهدت الصناعة العسكرية المحلية في غزة تطوراً، حيث كان تراكم الخبرات العسكرية لدى الفصائل المقاومة الفلسطينية، واستيلائها على بعض الأسلحة الإسرائيلية دوراً في تطوير قدرتها العسكرية في ظل الحصار. إضافة إلى ما تم استيراداه من أسلحة عبر عمليات التهريب إلى داخل القطاع، وبما في ذلك بعض أنواع مضادات الدروع، وحتى مضادات الطائرات قصيرة المدى”.
5- هل كانت حرب 2021 لحظة فارقة لتكون المقاومة الفلسطينية قادرة على بدء عملية 10 أكتوبر؟
في عدوان 2021، اعتبرت إسرائيل أنها انتصرت خلاله، وبذلك نجاح استراتيجية العودة للقطاع كل سنتين من أجل تدمير بعض القدرات العسكرية الموجودة هناك المتاحة عبر الاستخبارات، وقتل بعض القيادات ومعاقبة أهالي المناطق التي أطلقت منها صواريخ أو احتضنت عناصر المقاومة، فهذه استراتيجية يبدو أنها ناجحة في حرب 2021، وإسرائيل كانت تؤمن أن هذه الاستراتيجية (قص العشب كل سنتين) هي الاستراتيجية الوحيدة للتعامل مع القطاع، بمعنى أن هذا الصراع مستمر ولا يمكن إدارته إلا بهذه الطريقة وتكون تكلفته منخفضة وهذا ما كانت تحاول إقناع الأمريكيين والأوربيين به بشكل شبه علني. ولكن كان تقدير استخباراتي خاطئ للغاية، عدوان 2021 كان أقل حدة وأقصر فيما يخص فترات الاحتكاك المباشر مع الإسرائيليين، وفي الحقيقة كانت التجارب والعبر المستفادة للمقاومة الفلسطينية من عدوان 2014، الذي اعتبر الأطول، وقامت خلاله إسرائيل بمناورة برية واسعة، في المقابل امتلكت المقاومة قدرة على المناورة والهجوم وأسر جنود خلال العملية البرية آنذاك.
6- هل لإسرائيل تصور واضح لاستراتيجيتها الخاصة وعمليتها العسكرية في منطقة رفح؟
لديهم أهداف واضحة، ولديهم خطط للبقاء في مناطق معينة لبعض الوقت، ولكن يبدو أن العملية المتوقعة في رفح لن تكون قريباً بسبب المشاكل التي تواجهها إسرائيل، حيث تواجه ضغطاً دولياً كبيراً من الناحية السياسية، أما على الصعيد الإنساني فالكثافة السكانية في رفح مرتفعة اليوم، قبل العدوان، كانت تصل الكثافة السكانية في الكيلومتر المربع الواحد إلى 1500 فرد في غزة، أما اليوم تصل إلى أكثر من 18 ألف فرد في الكيلومتر المربع الواحد في رفح، لذا أي اشتباك بالأسلحة الصغيرة كالمسدسات والبنادق الآلية سيؤدي إلى خسائر بشرية في صفوف المدنيين الأمر الذي سيخلق مزيداً من الضغط الدولي على إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، أن القوة العددية في صفوف الجيش الإسرائيلي اليوم ليست كبيرة في غزة، وهم بحاجة لبعض التعزيزات والحشود للحفاظ على الضغط في الشمال، مع استمرار الضغط الإسرائيلي على الضفة الغربية. لذلك لا يبدو أن عملية رفح ستكون قريبة مع استمرار العمليات العسكرية في خانيونس وبعض العمليات القائمة في الوسط والشمال: بيت حانون ومستشفى الشفاء، حيث في تقديرات إسرائيل أن يوجد في رفح الآلاف من عناصر القسام فقط بالإضافة لعناصر المقاومة الأخرى.
علا وشاح، صحفية فلسطينية
5 أبريل 2024