تخطى إلى المحتوى

“لا أحد يموت جوعاً” ولكن غزة هي الاستثناء

تتساءل رانيا، التي رفضت الكشف عن كنيتها، بلهجة مليئة بالحيرة عن مصيرها وعائلتها في ظل اقتراب شهر رمضان الذي سيتحول من شهر المودة والرحمة، إلى شهر الآلام والجوع والموت هذا العام. وتصف رانيا معاناتهم في شمال القطاع بأنها “تجاوزت كل مفردات اللغة، وخيم على وجوه الأهالي ملامح التعب والعيون المرهقة بالقلق، يجوبون الشوارع بحثاً عن قطرة ماء تروي عطشهم، ورغيف خبز يسد جوعهم”.

تعيش رانيا في الفالوجة شمال القطاع والتي تبعد حوالي 30 دقيقة بالسيارة عن وادي غزة، ذاتها المنطقة التي تعرضت منذ الشهر الأول للعدوان الإسرائيلي لقصف جوي ومدفعي مكثف، ولحملة عسكرية برية مدمرة. لم يكن لرانيا وعائلتها خيار سوى البقاء في بيتهم،” ليس لدينا أحد بالجنوب، جميع عائلتي تعيش هنا، ولا نحتمل حياة الخيم حيث لا أمان للاحتلال الذي يقصف جميع مناطق القطاع”، تقول رانيا.

نزحت العائلة عدة مرات من بيتها خلال شهر ديسمبر الماضي، بعد تعرض منطقتهم للخطر المباشر أثناء الحملة العسكرية الإسرائيلية البرية، واتخذوا من بيوت أفراد العائلة محطات نزوح في مناطق مختلفة في الشمال، “لم نكن نعلم أننا سنضع أرواحنا على أكفنا في محاولتنا المستمرة بالهرب من الموت”، توضح رانيا. كانت ليال من الجحيم، القصف فوق رؤوسهم، والدبابات تحيطهم، والموت على بعد أمتار قليلة، ونداءات الاستغاثة لم يسمع صداها أحد، بحسب رانيا.

يتلاشى طعم الفواكه والخضراوات والخبز من ذاكرة المواطنين، وأصبح الحصول عليهم أشبه بالمستحيل في ظل المجاعة التي تصفها رانيا بأنها “عقاب جماعي” يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على سكان المحافظة الشمالية ومحافظة غزة، حيث يمنع دخول أي مساعدات إنسانية، تاركاً الجوع يفتك بجسد كل من رفض مغادرة بيته نحو الجنوب، “نحن في مرحلة جديدة من القتل، القتل من خلال تجويعنا”، تضيف رانيا بصوت خانق.

أن تكون أماً تحت أصوات الصواريخ يعني أن تتحمل مسؤولية تهدئة طفلك وحمايته، فتمثلت هذه المسؤولية في قلب رانيا أمام طفلتها ميس، 4 أعوام، “لم تهدأ ميس طوال فترات القصف، ما حدث ويحدث يفوق القدرة الاستيعابية لدى الإنسان العاقل، فما بالك بالأطفال”، تضيف رانيا، موضحةً أنه في ظل المجاعة التي يعيشونها لم تستطيع توفير ما تحتاجه طفلتها من وجبات أساسية مع استمرار انعدام المواد الغذائية في الشمال.

وتروي أن المقولة التي تتردد على لسان الكثير “لا أحد يموت من الجوع” استثنائها قطاع غزة، لأن الجوع اليوم أحد مظاهر الموت، حيث يموت الأطفال في غزة جوعاً حقيقة لا مجازا، على حد تعبيرها. وقد وصل عدد ضحايا سوء التغذية في قطاع غزة إلى 30 مواطناً حتى اللحظة، بحسب وكالة وفا الفلسطينية، 28 مارس 2024.

في ظل الصراع اليومي لتوفير وجبة طعام واحدة تسد جوع العائلات في الشمال، أعلن برنامج الغذاء العالمي، 20 فبراير 2024، وقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى شمال قطاع غزة المحاصر “إلى حين توفر الظروف الآمنة”. وسط هذا الواقع اللاإنساني والمأساوي بحسب رانيا، يجوب زوجها الأسواق المتاحة في منطقتهم بحثاً عن شيء يقاوم فيه وعائلته شبح الجوع، فلا يجد سوى جبنة صفراء ذات المذاق المقيت باهظة الثمن لسد جوع طفلتها التي اعتادت أن تتناول أفضل أصناف من الطعام.

تصف رانيا ما تمتلكه من طعام، الذي لا يكفي إلا لأيام معدودة، بكنزها الثمين، “لدي الآن 5 كيلو من الرز، والقليل من الطحين، وكيس معكرونة واحد، أحرص على عدم استخدامهم بكثرة، لأنني لا أعلم ماذا سنتناول بعد نفاذهم”.

في الواقع، رانيا وعائلتها كغيرهم من سكان المناطق الشمالية يغرقون في مستنقع العجز حتى وصل بهم الحال إلى طحن أعلاف الحيوانات والدواب وتناولها بديلاً عن الطحين، “لم أتخيل أننا سنتناول أعلاف الحيوانات يوماً، طعمها سيء للغاية، وغالية الثمن، ومع ذلك نفذت هذه الأعلاف من السوق”، توضح رانيا، مشددة على احتكار التجار للسلع الغذائية في حال توفرها، أو بيعها بمبالغ باهظة دون وجود أي ضبط للأسعار من قبل أي جهة حكومية، حيث وصل سعر كيلو السكر إلى 70 شيكل (20 دولار) بعدما كان 5 شيكل (1.5دولار)، وسعر 25 كيلو من الطحين وصل إلى ما يقارب 1500 شيكل ما يعادل 450 دولار بعدما كان 40 شيكل أي 11 دولار. 

خيارات الطعام باتت شبه معدومة أمام سكان المناطق الشمالية وتقتصر الآن على النباتات التي تنمو خلال فصل الشتاء كالخبيزة والسبانخ، كان كيلو الخبيزة مسبقاً حوالي 5 شيكل (1.5 دولار) ولكن ارتفع سعره إلى 15 شيكل (4.5 دولار)، “باتت أسعار هذه النباتات التي اعتدنا على توفرها بوفرة سابقاً غالية الثمن، إلى جانب ما يتوفر في السوق من مكسرات وبهارات الموجودة مسبقاً قبل العدوان في مخازن التجار”، تضيف رانيا.

وتعبر عن قلقها إزاء سوء التغذية، إذ فقدت أكثر من نصف وزنها الطبيعي، كما أنها لم تتمكن من تطعيم ابنتها في الوقت المحدد بعدما خرجت جميع المستشفيات عن الخدمة، خائفة من إصابتها بأمراض خطيرة، حيث ينهش مرض الكبد الوبائي، والنزلات المعوية، وفقر الدم، واليرقان، ونقص الحديد أجساد الأطفال وكبار السن خاصة في المدرسة الملاصقة لبيتها والمكتظة بالنازحين بسبب سوء التغذية.

“الموت عادة والحياة استثناء”

بالنسبة لمالك الشرباصي “أصبح الموت في غزة عادة والحياة فيها استثناء”، مالك الابن الأكبر لوالده، حامد الشرباصي، المريض بالسرطان، إذ نال منيّته بفعل نقص الجرعات الكيميائية، والانتظار الطويل على لوائح السفر.

اعتاد مالك مرافقة والده أثناء جرعاته الكيميائية في مستشفى الصداقة التركي أسبوعياً، وكان آخرها قبل العدوان الإسرائيلي بثلاثة أيام. سرعان ما تحولت عملية جدولة الجرعات الكيميائية والحصول عليها بسهولة قبل العدوان إلى عملية “معقدة ومُجهدة”، بحسب مالك.

 

في الأسابيع الأولى من القصف، استطاع مالك برفقة والده من الوصول إلى مستشفى الصداقة قبل يوم واحد من وصول الآليات العسكرية الإسرائيلية لها، وأن تتنقل من شرق المدينة إلى غربها تحت نيران الصواريخ الإسرائيلية، يعني أن تلقي بنفسك إلى حافة الموت، ولكن كانت المخاطرة بالروح أمراً لا بد منه، حيث آلام والده أكبر من أن تحتمل، “كان التنقل بين المحافظات أمر مصيري، ولكن كان الوالد بأمس الحاجة للجرعة الكيميائية”، يضيف مالك، مؤكداً أن المخاطرة لم تجني ثمارها وعادوا أدراجهم إلى البيت خاليي الوفاض دون الحصول على الجرعة بسبب عدم تواجد أحد من الطواقم الطبية المختصة في تحضير الجرعات الكيميائية.

“الانتظار كان قاتلاً، كيف يمكن لابن أن يرى والده يتألم بأبشع الطرق ولا يستطيع مساعدته؟”

يعيش مالك ووالده في منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة، وفي كل عدوان يكون للشجاعية نصيبها من الغارات الإسرائيلية، وكباقي مناطق محافظة غزة، كانت منطقتهم على لائحة الإخلاء منذ الأيام الأولى للعدوان، ووصل القلق ذروته لدى مالك خوفاً من حدوث مضاعفات خطيرة على صحة والده قبل النزوح. لم تكن عملية إقناع والده بالنزوح سهلة، وكانت الهدنة التي عقدت بتاريخ 24 نوفمبر 2023 الفرصة الوحيدة أمامهم لتوجه جنوباً، “كان هناك ضغط من جميع أفراد العائلة عليه لإقناعه بالمغادرة من أجل سلامته الصحية في ظل تساقط مستشفيات مدينة غزة واحدة تلو الأخرى ونقص الاحتياجات الطبية فيها”، يروي مالك.

ويضيف أنه عاش ساعتين من الضغط النفسي والقهر والإهانة والذل عند الحاجز الإسرائيلي في شارع صلاح الدين، شعر وكأنهما سنتين وأكثر. كانت رحلة شاقة ومتعبة للجميع، حيث لا تعبر السيارة بعد نهاية مدينة غزة جنوباً عند دوار الكويت، ولاستكمال الطريق “تركب على عربة تجرها دابة” لتقطع حوالي 500 م للوصول إلى نقطة وجود الجيش الإسرائيلي، وتكمل الطريق مرتجفاً بعد ذلك مشياً على الأقدام. “كانت ظروف الطريق صعبة جداً علينا نحن الشباب، فكيف على الأطفال وكبار السن والمرضى”، يتساءل مالك، مستذكراً سقوط امرأة كبيرة بالسن في الوحل والطين تحت زخات الأمطار ولسعات البرد القارصة. 

خلال رحلة النزوح، ومن وسط بكاء الأطفال المستمر، ودقات قلوب المواطنين خوفاً عند مرورهم من بين التلال الرملية التي يرتكز جنود الاحتلال عليها أمام أسلحتهم، كان يضع والد مالك يده بشكل مستمر على منطقة بطنه المصابة بالسرطان، تارة يتكئ يميناً، وتارة أخرى يتكئ يساراً بفعل الآلام الشديدة، “الدقيقة تمر عن عمر بأكمله عندما يأمر الجندي كل مواطن أن يمر بمفرده من بين المكعبات الإسمنتية وأجهزة الفحص الأمنية وكاميرات المراقبة بعدما أمرنا بالجلوس على الأرض المبللة لمدة ساعتين”، يتابع مالك.

بحسب الطبيب كان من المهم أن يستأنف حامد الجرعات الكيميائية لمنع عودة أي نشاط للخلايا السرطانية في جسده، ولكن استئناف العلاج في منطقة انهار قطاعها الصحي بات حلماً، والحصول على جرعة كيميائية أو حتى نصفها كان مستحيلاً في ظل الحصار البري والجوي والبحري. كانت النجاة من رحلة الموت عبر الممر الذي يدعي جيش الاحتلال أنه آمن، دافعاً لحامد لاستكمال الرحلة إلى المستشفى. ويؤكد مالك أن والده أصر على رؤية الطبيب مباشرة بعد الرحلة المرهقة، فكان هناك أمل لديه ولدى جميع عائلته من الحصول على تحويلة للاستكمال علاجه بالخارج. 

كان بصيص الأمل قد عاد للعائلة بعد الحصول على التحويلة الطبية اللازمة، ولكن “الانتظار كان قاتلاً، كيف يمكن لابن أن يرى والده يتألم بأبشع الطرق ولا يستطيع مساعدته؟”، يتابع مالك. 

تحولت تخوفات مالك في بداية الحرب من أن تطرأ مضاعفات خطيرة على صحة والده إلى واقع أشبه بالكابوس، وبدأت المضاعفات تظهر على صحة والده ذو الوجه البشوش والروح الخفيفة على قلوب الجميع، المبادر دائماً لمساعدة غيره، عزيز النفس، كما وصفه مالك.

بعد انقطاع عن الجرعات الكيميائية لأكثر من شهر، بدأت أعراض انتكاسية صحية تظهر على والده، بدأت بشعور ثقيل في بطنه، تبعه استمرار في التقيؤ دون وجود أي نوع من الطعام أو الماء في معدته، وكان اعتماده الكلي على المحلول الوريدي، ويوضح مالك أن نصيب مرضى السرطان في كشوفات سفر الجرحى اسمين أو ثلاثة من أصل 30 اسم، ما يعني أن الأعداد قليلة جداً مقابل ما يقارب 15 ألف مصاب آنذاك، إلى جانب المصابين بالأمراض المزمنة. “كل يوم كنا نتصفح كشوفات المرضى للسفر وننتظر على أمل إدراج اسم والدي ضمنها في أقرب وقت ممكن، وبالرغم من المحاولات الحثيثة للاستعجال الحالة من جهات معنية إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل”، يقول مالك. 

بعد 35 يوماً من صعود روح والده إلى السماء والوداع الأخير، وأكثر من 30 يوماً من الانتظار القاتل، أدرج اسم والده على لائحة السفر لاستكمال العلاج بالخارج، “نمنا بدموعنا عندما سمعنا خبر سفره، قضاء الله نافذ، ولكن لو حصل والدي على الجرعة الكيميائية كان تحسن وضعه الصحي وبيننا الآن”، ينهي مالك حديثه.

لا نجاة بعد النجاة

بعد غربة استمرت خمس سنوات، كانت العودة والاستقرار في الوطن الأولوية بالنسبة لأمل الحناوي التي عادت من تركيا بعد إنهاء دراستها الجامعية في تخصص الصحافة. كانت الخطط تتمثل لديها بتنفيذ مشروعها الخاص باستيراد الملابس وبيعها في غزة، وتصميم غرفتها الخاصة من الصفر، ولكن “المهندس المشرف على تجهيز غرفتي استشهد”، تقول أمل.

عادت أمل إلى غزة في شهر سبتمبر وجعبتها مليئة بالخطط لسنواتها القادمة من عمرها، ولكن سرعان ما فرغت جعبتها من كل شيء مع بداية العدوان الإسرائيلي، “تحولت كل الخطط في حياتي إلى أن أبقى فقط على قيد الحياة”، تضيف أمل. وبالرغم من نجاة أمل ووصولها إلى بر الأمان في مصر لا تستطيع العودة إلى ما كانت عليه قبل العدوان بعدما كان لديها حياة، بيت، أصدقاء، أحلام.

ونقطة الصفر لأمل تعني أن تستنزف تحويشة العمر على مواد غذائية ومعلبات فاقت أسعارها معدلها الطبيعي، وألا تمتلك شيء سوى ملابسك التي خرجت بها من غزة، وإن كنت محظوظاً بالنجاة مع ما تبقى من مال لديك فسد أجرة البيت في مصر ستكون على رأس أولويات قائمة الصرف بعدما كنت تمتلك بيتك الخاص.

إن الخروج من منطقة تملئها رائحة الموت وشعور الخوف ليس بالضرورة أن تستمر بعدها بالحياة، إنما تذهب إلى مجهول بالنسبة لأمل. “هذا العدوان مختلف عما سبقه، خسرنا كل شيء، وأن تبدأ من الصفر في مكان آخر غير وطنك خيار غير متاح”. 
وإن الانتقال من بيت لآخر أمر يحتاج إلى تخطيط مسبق، فكيف بالذي ترك كل شيء من أجل أن ينجو بروحه ليبدأ دون تخطيط في وطن غير وطنه، تتساءل أمل، مشيرة إلى أنها تشعر بأنها رهينة الوقت، تمضي أيامها منتظرة انتهاء الكابوس، والعودة إلى أرضها.

“نحن محكمون بأمل العودة إلى غزة، ولكن هل غزة التي أعرفها ستعود، كيف يمكن أن يختزل الإنسان حياته في ألبوم صور على هاتفه يقلبه بين الحين والآخر ليستذكر ما كان لديه، والحديث عما كان لديه بالماضي كالسكين في القلب”

استنزف هذا العدوان المواطن الغزي عاطفياً ونفسياً وجسدياً ومادياً، لم تكن المواد الغذائية متوفرة بالأسواق منذ أيامه الأولى، وتؤكد أمل التي تعاني من مرض السيلياك، وهو اضطراب مزمن في الجهاز الهضمي يضر بالأمعاء الدقيقة والذي يسبب استجابة الجهاز المناعي بشكل غير طبيعي لبروتين الغلوتين، أنها لم تجد المواد الغذائية الخالية من الغلوتين في الأسواق، إذ أصبحت رفاهية لأن المواد الغذائية الأساسية لم تكن متوفرة.

تفاقم وضعها الصحي بعد شرب مياه ملوثة مما أدى إلى اعتمادها على المحلول الوريدي بعد أيام من استفراغ وعدم تناول طعام، “عندما دخلت معبر رفح وحصلت على مياه معدنية، كانت أثمن شيء أمتلكه حينها” تضيف أمل، مؤكدةً أن شعور الذنب مصاحب لها مع كل وجبة طعام تتناولها، وفي كل دقيقة هادئة تنعم بها، وفي كل شربة ماء ترويها، حيث تصاحبها عقدة الناجي بكل فعل بسيط تمارسه خلال يومها.

“نحن محكمون بأمل العودة إلى غزة، ولكن هل غزة التي أعرفها ستعود” تتساءل أمل، وتكمل أن المستقبل قاتم جداً في أعينها وأعين عائلتها، وكيف يمكن أن يختزل الإنسان حياته في ألبوم صور على هاتفه يقلبه بين الحين والآخر ليستذكر ما كان لديه، والحديث عما كان لديه بالماضي “كالسكين في القلب” بحسب وصفها، قائلة: “لحظة واحدة كفيلة أن تسلب منك كل شيء”.

علا وشاح، صحفية فلسطينية

18 مارس 2024

ــــــــ ذات صلة ــــــــ